نظم منبر العلوم الإسلامية للثقافة والمعرفة، ندوته الدولية السادسة عشرة، بعنوان (عميد الأدب الأندلسي العلامة الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة.. إنسانا وعالما)، استضاف فيها أساتذة من المغرب وليبيا والعراق، وأدراها كلا من أ. د ثائر الشمري و أ.م. د صفاء عبد الله برهان، وإلكترونيا السيد علي جاسب الموسوي.

في البدء شرعت أرمل العلامة ابن شريفة، رحمه الله تعالى، أ. د عصمت عبد اللطيف دندش بكلمة الأسرة، شكرت فيها كلية العلوم الإسلامية على هذه الندوة التي تعنى بذكرى عميد الدراسات الأندلسية؛ لأنه من العلماء العاملين المبلغين، وهو العالم المجدد في أبواب متعددة، محرضا على طلب العلم، معظما لشأن حملته وأهله، ناصحا بتعليمه، برًّا بطلبته، لين الجانب، جمع بين شرف لعلم وشرف الأرومة، فهو (شريف صقلي)، لم يشر إلى نسبه من قريب أو بعيد، لئلا يستغل، عاش في صمت، خافض الصوت عند الحديث، لا يتحدث عن نفسه، مبتعدا عن الأضواء وحب الظهور أو المداهنة والبحث عن المناصب، وحقق نوادر المخطوطات التي بينت الحضارة والرقي الذي وصل إليه الغرب الإسلامي، وأماط اللثام عن شخصيات وعلماء كان لهم أثر كبير في الحياة الثقافية والسياسية، وقد بذل في ذلك جهدا جبارا، فكان يتتبع مفردات الشخصيات التي قدمها بنحو دقيق، وقد بلغت أعماله خمسة وخمسين مؤلفا غير المقالات بالمجلات، والمداخلات في المؤتمرات.

بعد ذلك تحدث رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق أ. د عبد الطيف الهرامة، وقد حيا في كلمته أساتذة جامعة بغداد، وخص بالذكر الدكتور صفاء الذي كان وراء هذا اللقاء البهيج حول شخصیَّةٍ علمیة مشهود لها بالتمیز والجدیة، وذكر أنه التقى بها أول مرة سنة 1977، وكان معیدا في الجامعة يبحث عن موضوع أندلسي لدراسته، والفقيد مدیرا لخزانة القرویین بفاس، فسعد بأریحیته النادرة وتشجیعه الحفي، ثم التقى به بعدُ في مجالسَ وندواتٍ بتطوان وفاس ووجدة وطرابلس والریاض، واستفاد من مؤلفاته كثیرا، وقابله مرارا في بیته العامرة، وفي الخزانة العامة بالرباط حین كان مدیرا لها، فتعلم من معاملته قبل علمِه. فعرف رجلا واثقا من علم في تواضع جم، یتحدثُ بصوتٍ أقرب إلى الهمس، وبكلماتٍ مختارةٍ یمكنُ أن تعدَّھا، وأنتَ مشدودٌ إليها، مغتبطٌ بانتظار اكتمالها، یُلقي على أسماعك مصحوبةً بابتسامته الرائعة، فلا تنسَ الفحوى ولا المناسبة. والرجل إلى سعة اطلاعه بالمخطوطات صاحب منهج ورؤیة، یقدِّم العمل بعد اطلاع على معظم ما یتعلق به، ویُشفي صدر صاحبه من تساؤلات مُحیرة، ویجتهد في التَّفسیر ویقنع بالدلیل، و یقف عند دقائق الأمور مثل الضبط السلیم، وذكر أن الدكتور ابن شریفة حظي بالتكریم في حیاته في أكثر من جامعة، ومنها بكلیة آداب وجدة التي كان عمیدها، فقد تحدَّث في تكریمه أساتذة أجلاء كالدكتور صلاح جرار من الأردن، والدكتور مصطفى الغدیري من المغرب، والدكتور مقداد رحیم من العراق، وغیرھم بلسان واحد ھو الثناءُ على الرَّجل والاعترافُ بفضله.

ثم أعقبه أستاذ الأدب الأندلسي بجامعة الحسن الثاني ابن مسيك بالدار البيضاء أ. د أحمد المصباحي، وهو تلميذ آخر للعلامة ابن شريفة، وقد تحدث عن علم الرجل وفضله، فقال: حين وافق بالإشراف على أطروحتي؛ كان يعلم رحمه الله انه استوعب مخطوط زواهر الفكر وجواهر الفقر ورقة ورقة؛ لذا فهو لم يراجع معي مراحل البحث لكن أثناء المناقشة دافع عني أمام أعضاء اللجنة دفاع الخبير الممكن؛ كما أنني كلما طرقت مكتبه كان يسألني عن الجديد الذي حصلت عليه من لدن المستعرب الاسباني (امليو م لينا لوبس الغرناطي) الذي كان متخصصا بشرق الأندلس؛ لأن المرحوم كان بصدد اصدار رسائل ابن عميرة شيئا فشيئا إلى أن كانت ختام مسك لمسيرته العلمية.

أستاذ الأدب الأندلسي بكلية الآداب بجامعة محمد الأول بوجدة، أ.د مصطفى الغديري،وهو من تلامذة الفقيد الكبير، ذكر أن أعمال الدكتور ابن شريفة كلها تصب في حفظ الذاكرة الأندلسية بكل مكوناتها العربية والامازيغية والقوطية واليهودية. وكانت تسعى إلى ربط الصلة بين الأندلس وبين المشرق وبخاصة العراق من جهة، وبين الأندلس وأفريقيا من جهة اخرى، فرشحته أعماله ترشحه أن ينال لقب عميد الدراسات الأندلسية بشهادة كبار المتخصصين في الأندلسيات عربا كانوا أم مستعربين، وبخاصة عمداء الدراسات الأندلسية من الاسبان أمثال غارسيا غومس ولويس سيكو دي لوسينا. وختاما فقد نذر الرجل حياته طوال ستة عقود من الزمن للبحث في التراث الأندلسي، الفصيح والشعبي أدبا وفقها وفنا ونحوا وفلسفة وقراءات قرآنية.

 

وأخيرا جاء دور أستاذ الأدب الأندلسي المساعد صفاء عبد الله برهان، فتحدث عن لقائه بالعلامة ابن شريفة بالمغرب، مبينا خلقه وفضله وعلمه واريحيته، وقد حكى تأخره عن موعده الأول معه، وعندما سأله عن سبب ذلك أجابه ممازحا: أنت السبب، فتبسم من قوله، متسائلا، فرد عليه بسبب كتابك الأخير (ابن رشيق المرسي حياته وآثاره)، ابتعته من بعض المكتبات بالرباط، ما أسرّ وجدان العلامة ابن شريفة، وامضى عليه: شكرا على إسعادي بشراء هذا الكتاب وقرائته، وتحدث عن مجالسته لذلك العالم الكبير ببيته العامرة، مؤكدا  نسبه الشريف الذي ذكرته الدكتورة دندش، وأنه من أسرة من آل البيت عليهم السلام، وقد بدت سيماء ذلك النسب في أخلاقه وعلمه، وأنك أمام موسوعة أندلسية، تسأله فتجد الجواب حاضر، ويعطيك من نتاجه وغيره ما شعر بحاجتك لها دون أن تطلب، وذكر تشجيعه للطلبة والباحثين، ومنها تدوينه لقب دكتور على اسمه قبل أن ينال تلك الشهادة، للتفاؤل والطاقة الإيجابية، وأنه كان لا يفارق الكتاب حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، يوم 22/ 11/ 2018، ليرقد في مقبرة الشهداء بالرباط، وقد كتب على ضريحه:
آثـــــــــــــاره تنبيــــــــــك عـــــــــــن أخبــــــــــــاره حتــــــــــــــى كأنك بالعيــــــــــــــــــان تــــــــــراه
تا الله لا يأتـــــــــــــي الزمان بمثـــــــــــلـــــــــه أبــــــــدا و لا يرقى للعــــــــــــــلا ســـــــــــــواه
وهو مصداق لما نطق به جده أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو يخاطب كميل النخعي، رحمه الله تعالى: (يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة).

حرره: د. صفاء عبد الله برهان.
استاذ الأدب الاندلسي المساعد.
ومدير شعبة الإعلام والعلاقات العامة
بكلية العلوم الإسلامية جامعة بغداد

Comments are disabled.